خاص - شبكة قُدس: تظهر المناقشات الأمنية "الإسرائيلية" التي دارت قبل أسبوع من بدء معركة طوفان الأقصى، وكشف عنها تحقيق صحفي للقناة 12 العبرية، أن صعود المقاومة في الضفة الغربية كانت أحد أهم الأسباب التي ساقها رئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هليفي للبدء بهجوم واسع على حركة حماس يشمل اغتيال قياداتها ومهاجمة أهدافها في ساحات عدة. بحسب تحقيق القناة العبرية فإن هليفي حذّر من نشاط الحركة العسكري المتزايد في الضفة، واعتبر أن اغتيال المسؤولين عن هذا النشاط ضمن عملية واسعة ضد حماس هو أولوية بالنسبة له.
في التقييمات التي تقدمها المؤسسة الأمنية للاحتلال، عادة ما يكون هناك تباينات، سبق وأن أشارت لها دراسات أمنية ومقالات صحفية. يقدّم الجيش تصوره وتوصياته بناء على الإحصائيات التي يعدّها؛ عدد العمليات، عدد المعتقلين، عدد المحاولات لتنفيذ عمليات. تشكل هذه الأرقام بالنسبة للجيش الأساس الذي يبني عليه موقفه من ساحة أو جبهة معينة. في المقابل، فإن التصوّر الذي يقدّمه الشاباك أو أذرع الاستخبارات يكون مبنيا على روايات المعتقلين في التحقيق أو من خلال مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي ومتابعة النقاش العام في ساحة ما وكذلك معلومات مباشرة عن نوايا فصائل أو أشخاص تنفيذ عمليات.
وبالعودة لحديث هليفي في المناقشة الأمنية المذكورة والأسس التي يبني الجيش تصوراته عليها، فإن الاعتبار الأهم الذي قدّم رأيه على أساسه، هو إحصائيات بيد الجيش، يعني حقائق فعلية قائمة على الأرض وليس تكهنات وتصورات استخباراتية. ينسجم هذا الافتراض مع الزيادة الملحوظة في عمليات المقاومة في الضفة الغربية منذ عام 2021 الذي شهد بوادر تشكيل مجموعات المقاومة في الضفة الغربية، والتي تلقى بعضها الدعم والتوجيه من قبل فصائل المقاومة، أو مجموعات مركزية مرتبطة ارتباطا عضويا في فصائل المقاومة وعلى وجه التحديد حركتي حماس والجهاد الإسلامي وكانت هذه السمة الغالبة في السنتين الأخيرتين خاصة في شمال الضفة.
ويمكن فهم تخوفات هليفي وإصراره على مهاجمة حماس، من خلال البيانات الرسمية التي نشرها الجيش في عام 2023، حيث كانت هناك زيادة بنسبة 350% في العمليات في الضفة الغربية مقارنة بعام 2022، فقد وقع 608 عملية إطلاق نار ودهس وطعن وإلقاء عبوات ناسفة في الضفة، مقارنة بـ 170 عملية في عام 2022. وقد أشار الجيش في حينها إلى رقم مثير للقلق من وجهة نظره وهو تسجيل حوالي 300 عملية إطلاق نار في عام 2023 في جميع أنحاء الضفة، وهو رقم قياسي منذ الانتفاضة الثانية. لكن في المقابل فعّل جيش الاحتلال سلاح الطيران بكثافة في ساحة الضفة، فقد نفذ عمليات قصف بطائرات مسيرة لأول مرة منذ 2006، وهاجم أهدافا في الضفة 41 مرة بواسطة طيرانه الحربي والمسير، ونفذ 200 عملية اقتحام في مخيمات شمال الضفة ما بين أكتوبر وديسمبر 2023.
دفعت هذه الزيادة الكبيرة في العمليات في ساحة الضفة الغربية جيش الاحتلال لاستحداث مراكز تعقب وسيطرة حتى في ظل انشغاله في جبهتي قطاع غزة وجنوب لبنان، ففي نهاية العام 2023 أنشأت القيادة المركزية في جيش الاحتلال غرفة عمليات خاصة في قسم الإجراءات المضادة، والهدف هو منع حركة حماس من تصعيد وتيرة العمليات في الضفة، وتضم الغرفة؛ الجيش والشاباك والاستخبارات العسكرية، وقد صرّح ضابط الإجراءات المضادة في القيادة المركزية في جيش الاحتلال بشكل علني أن الهدف هو محاصرة كل جهد وعلاقة مع حركة حماس، ولا يقتصر الأمر على محاولة تنفيذ عملية أو نشاط جماهيري، بل إن أي رأي مناصر للحركة هو في دائرة الاستهداف.
الإجراءات المضادة التي قام بها جيش الاحتلال وأذرع الاحتلال الأمنية من اغتيالات واعتقالات وملاحقات، بالإضافة إلى النشاط الأمني المتزايد لأجهزة أمن السلطة الفلسطينية التي لاحقت المطاردين وأبطلت مفعول العبوات وحاولت رفع الغطاء الشعبي عن المقاومين، لم تنجح في منع الاتجاه المتصاعد في المقاومة بساحة الضفة الغربية، فقد كشف معهد دراسات الأمن القومي أن هذه الساحة شهدت منذ بداية العام الجاري وحتى شهر سبتمبر 5535 عملية بمعدل 500 عملية تقريبا في الشهر. وبالمقارنة مع حجم الإجراءات الإسرائيلية وحتى التي تقوم بها السلطة فإن الاحتلال يعيش حالة استنزاف حقيقي تتطلب منه جهدا متزايدا في المجالين العسكري والاستخباراتي.
إن أبرز تعبير عن فشل الإجراءات المضادة ما كشفت عنه صحيفة "إسرائيل اليوم" في سبتمبر الماضي، والتي أشارت فيه إلى أن تطور حالة المقاومة في الضفة الغربية وتصاعد العمليات بشكل ملحوظ، دفع الجيش إلى اتخاذ قرار بتعريف منطقة الضفة الغربية "كمنطقة قتال"، وهذا يعني أن الضفة لن تكون ساحة ثانوية بالنسبة للجيش ويترتب على ذلك تركيز قدر كبير من القوة والإجراءات من أجل القضاء على حالة المقاومة.
المثير في التقرير، ما أورده عن وجود إنذارات لدى أذرع الاستخبارات الإسرائيلية بأن الأمور قد تتدحرج لاقتحام مستوطنات من قبل مقاومين فلسطينيين. ومن الناحية القانونية والعسكرية، فإن "منطقة القتال" هو التعريف الذي يسبق تعريف "حالة الحرب".
وفي حين فشلت الإجراءات المضادة الأمنية والعسكرية في وأد حالة المقاومة في الضفة، يتضح أن الاحتلال ومعه السلطة الفلسطينية ذهبت لنموذج فاشل جرى تطبيقه في قطاع غزة وكانت نتيجته الكارثة بالنسبة للاحتلال (7 أكتوبر). ملامح هذا النموذج يكشف عنه رئيس الإدارة المدنية الإسرائيلية التابعة لجيش الاحتلال في الضفة الغربية، الذي قال لصحيفة يديعوت أحرونوت إنهم يتعاونون مع الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية وشخصيات عامة واقتصادية من أجل خلق واقع جديد في مدن الضفة، مشيرا إلى مدينة نابلس كمركز جهد مشترك.
ويوضح أن جيش الاحتلاتل عزز من سلطة محافظ نابلس وغيره من المسؤولين عبر منحهم صلاحيات أكثر، مثل التصاريح والطلبات الخاصة وبطاقات VIP، وهذه الصلاحيات تمنحهم القدرة على "فرض الأمن" دون المس بحرية عمل جيش الاحتلال في نابلس ومخيم بلاطة، والهدف هو خلق ثمن لحالة المقاومة، مضيفا أن الأجهزة الأمنية للسلطة تسهم في "تحسين الأمن" بالضفة، وعندما يواجه الجيش أحداثًا كبيرة كحملة اعتقالات أو حدث ما، تنخرط أجهزة أمن السلطة في تأمين دوائر الحماية في الميدان.
ولكنه يشير في الوقت ذاته أنه رغم كل ذلك، إلا أن الاحتلال تعلم من أحداث 7 أكتوبر أنه لا يمكن الاعتماد على أحد سوى جيشه ومخابراته، لكنه نسي في حديثه عن هذا النموذج العملي أن الحالة الاقتصادية في مدينة جنين ومخيمها كانت ممتازة قبل نشوء مجموعات المقاومة فيها، فقد كانت العمال يدخلون منها للداخل المحتل بينما فلسطينيو 48 يأتون إليها للتسوق والحركة الاقتصادية في أوج نشاطها، لكن ذلك لم يمنع من تصاعد حالة المقاومة. إن الاحتلال دائما ما يقع في مغالطات نظرياته، فهو حتى الآن يتجاهل الفلسطيني كقضية سياسية لاعتبارات أيديولوجية، وهذه العقدة المزمنة والفجوة الكبيرة في فهم العدو هي التي أتاحت الفرصة للمقاومة الفلسطينية للاستمرار وتوجيه الضربات له في مراحل متعددة، والمثال الأبرز والحاضر هو الـ 7 من أكتوبر.
من المشكوك فيه أن تنجح الإجراءات الاقتصادية المضادة، التي فشلت في تحجيم المقاومة الفلسطينية استراتيجيا في ساحة الضفة الغربية ما بعد الانتفاضة الثانية، ولعلّ الإحصائيات التي يصدرها الجيش بنفسه عن تصاعد عمليات المقاومة تدعم هذا الافتراض من الشك، لكن اللجوء إلى هذا الخيار مصدره الفشل الذي مني به الاحتلال في منع المقاومة وتصاعدها عبر الإجراءات المضادة العسكرية والاستخباراتية، وحتى لو توقفت أصوات البنادق والمدافع في الساحات المختلفة، فإن الضفة ستبقى أزمة مزمنة للاحتلال لا يمكن له أن يحسم فيها موقفه وواقعه.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا